في هذا الحوار تفتح لنا الروائية العراقية الشابة حوراء النداوي قلبها لتجيبنا عن بعض الأسئلة الخاصة بحياتها في المهجر و في الدنمارك تحديدا و تحدثنا عن عملها الروائي الأول “تحت سماء كوبنهاغن”.. أتمنى أن تستمتعو بالحوار :).
حوراء النداوي هي من كتاب المهجر الشباب الذين عاشوا في غير أوطانهم الأم، كيف حملت حوراء هم الكتابة في مجتمع تختلف معه ثقافيا و لغويا و تاريخيا؟.
ـ لم تكن اللغة أو الثقافة المختلفة عائقاً أمامي أبدا، ففي عمر الست سنوات حين هاجرت من العراق كنت أحمل معي لغتين و ثقافتين، بحكم أن والديّ من قوميتين مختلفتين.. و رغم أنني نشأت في منزل نتحدث فيه أكثر من ثلاث لغات إلا أن اللغة العربية كانت الأساسية لدينا، و كانت أيام الآحاد عادة مخصصة لقراءة الشعر و الأدب و تدارسه.. مع الوقت انتقل هذا الشغف و الاهتمام باللغة لي بشكل كبير فصارت مرتبطة بالهوية و الوطن، و لم تعد مجرد وسيلة تواصل أو لغة إضافية أخزنها في أدراج الذاكرة و أهملها.. تعاملت مع العربية كاهتمام و هواية، فمثلما كان لبعض أقراني اهتمامات كالموسيقى و الرياضة و الرسم و غيرها من الهوايات كانت اللغة و ما يدور في فلكها هوايتي و بالنتيجة الكتابة أيضا..
في رواية “تحت سماء كوبنهاغن” ألقيت الضوء على عراقيي الدنمارك الذين فروا من النظام البعثي، و لكونك تنتمين لذلك الجيل الذي نشأ هناك بعيدا عن العراق، كيف ترين علاقة المهاجر العراقي اليوم بالعراق بعد أن أصبح له وطنُ ثاني؟.
ـ في التسعينات و نهاية الثمانينات كان معظم العراقيين في المهجر إذا لم نقل كلهم قد فروا من ظلم و ملاحقة النظام السابق و ذكرت في لقاء سابق أن أسرتي أغلبها من السجناء السياسيين.. من الطبيعي أن تختلف علاقة المهاجر الفار من الظلم مع الغربة مقارنة بالمهاجر الذي سعى للهجرة بحثاً عن لقمة العيش.. فالأول يرتبط غالباً بقضية و الثاني يعامل الغربة بعفوية أكثر.. و بشكل عام علاقة المهاجر مع الوطن تكون مختلفة و متفاوتة و من السهل جداً أن يجرفه البلد الذي هاجر إليه إذا ما قطعت عليه أصر التواصل مع الداخل.. الجيل المهاجر الذي انتمي له لم ير العراق و لا يعرف عنه إلا ما ينقله له الأهل و مجتمع الجالية العراقية حيث يتواجد.. المسؤولية هنا تقع على عاتق الناقل فهو الذي سيحدد للمهاجر الصغير علاقته مع وطنه.. فترى البعض من جيلي يعرف شوارع بغداد و تفاصيل الحياة فيها دون أن يكون قد زار العراق، و البعض الأخر لا يحمل من العراق غير ملامح الوجه، الأمر هنا منوط بالناقل بسلامة نيته و خلوه من العقد و مدى حبه لوطنه و حرصه على النقل..
لم تخل روايتك من السياسة بما أنه تقريبا جميع العراقيين بالرواية هم لاجئون من النظام العراقي الذي سبق الاحتلال الأمريكي، هل ترين أن الأنظمة العربية تسببت في خلق معنى جديد للوطن الأم لأبناء اللاجئين الذين تربوا في غير ذلك الوطن؟
ـ العراقي شاء أم أبى متورط في السياسة، و من الطبيعي أن تجد في الرواية إشارات سياسية حتى و إن لم تكن مقصودة.. و نحن لم نكن سواحاً في المهجر، مشكلتنا كانت مع النظام السابق و لولا قسوته لما تركنا وطننا بحثاً عن ملجأ آخر.. هذه الأيام تمر الذكرى العاشرة على زوال الحكم الصدامي، لكن قضيتنا لم تنته بعد.. هناك مسؤولية التذكير ببشاعة ذلك النظام و بطشه و مسؤولية إرجاع الحقوق المسلوبة و غيرها من التركات الهائلة التي خلفها النظام البعثي.. شخصياً و بالمقارنة لم أعان ما عاناه العراقيون في الداخل لكن الوطن المسلوب منذ الطفولة و معاناة الاغتراب التي فرضت فرضاً سيبقى جرحها أبدا..
يعبر رافد في روايتك عن نفسه بالقول “حقا.. لم أتوقع أكثر من إشباع جزئي لفضولي النسائي، فأنا لست مبالغا حد الطمع بإشباع تام.. فبحثي في ما وراء عالم الأنوثة يعد هوايتي الأكثر متعة، و سري الذي لا أحلم بفضحه”. متأكد من أنه تقريبا جميع الرجال لديهم نفس الفضول، كيف استطاعت حوراء الأنثى استشفاف هذا الشعور الذكوري؟
ـ كثيراً ما يطرح عليّ هذا السؤال، و لا أجد الأمر معقداً إلى هذا الحد.. الرجل بشكل عام ليس صعب الفهم على المرأة، سيما فيما يخصها.. ثم إن رافد في النهاية شخصية صنعتها أنا و من الطبيعي أن املك مفاتيحها جميعاً، و خريطته مهما كانت معقدة وضعتها بنفسي، فكان سهلاً أن أدرك متاهاتها شأنها شأن بقية الشخصيات في الرواية..
من خلال شخصية “هدى” في الرواية تعرفنا على ما يعيشه أبناء المهاجرين العرب من تجاذبات و صراعات نفسية و اجتماعية، هل أسقطتِ على هدى شخصيتك كابنة مهاجر عراقي، و إن كان ذلك قد حدث، هل تحسّين أنك عبرت عن حقيقة ما يشعر به المنتمي الجديد لوطن قد لا يَعتبره الآخرون وطنه؟.
ـ هذا أمر طبيعي فانا أعيش في المهجر منذ أكثر من عشرين عاماً طفولتي و مراهقتي و المدارس التي درست فيها و الصداقات التي صنعتها كلها كانت في المهجر.. لكنني لست المهاجرة الوحيدة التي اعرف، لدي أصدقاء و معارف كثر من خلفيات متعددة و كلهم يعاركون الغربة بطرق مختلفة و كانوا إلهاما حقيقياً للرواية.. شخصية هدى الناقمة على الوطن الأم الذي ترى أنه نبذها مثلاً لا تشبهني فانا شخصياً لم أعش إحساسا كهذا تجاه العراق و كان ارتباطي به جلياً وواضحاً لكل من يعرفني.. حاولت على قدر استطاعتي أن أنقل ما أراه و أسمعه ممن حولي، و رافقني إحساس بالمسؤولية و إحساس صادق بالنقل.. أغلب أقراني و أصدقائي من العراقيين لا يقرؤون العربية علي نحو جيد بل إن صديقاتي المقربات مثلاً لم يقرأن روايتي حتى الآن و ينتظرنها مترجمة.. كنت أشعر بمسؤولية مضاعفة تجاه مشاعر و أسلوب حياة هؤلاء الذي أنقله لقارئ عربي يرتدي ملابسه الوطنية و يجلس مسترخياً في منزله ليقرأ عن هؤلاء المغتربين الذين قد تزعجه ألسنتهم الملتوية إذا ما صادفهم يوماً.. و أعلم أن هذا الكتاب إذا ما كان جيداً سيشكل فرقاً في حكم هذا القارئ على هذه الفئة من الناس..
جمالية اللغة في روايتك تفرض سحرها على القارئ، كيف استطاعت حوراء أن تشغل تلك الجمالية على الرغم من نشأتها في بلد قد لا تعنيه اللغة العربية من قريب؟
ـ المعروف أن العراقيين بشكل عام يفضلون الشعر على سائر الأصناف الأدبية الأخرى.. أغلب أدباء العراق يبدءون شعراء ثم يتحولون إلى الرواية أو القصة و خلافه.. تربيت على قراءة الشعر و ارتبطت بالمتنبي تحديداً منذ سن الحادية عشرة حين كان والدي يقرأ عليّ قصيدة و يشرحها لي كل يوم أحد، و كنت أبقى أردد القصيدة طوال الأسبوع حتى أحفظها.. حين بدأت اختار قراءاتي بنفسي كان وعيي الأدبي قد ارتبط بالشعر حتى قبل أن يرتبط بالرواية، لكنني و بتوفيق ما كنت اعلم أنني لن أكون شاعرة.. لعل ما تقصده من جمالية هنا يعود تأثيره لتلك الفترة..
الكتابة أحيانا قد تتعدى التعبير عن النفس إلى خلق مفاهيم جديدة للأشياء، هل تظنين أنه من خلال ما كتبته عن تجربة الاغتراب في الدنمارك أنك أعطيت لمعنى الهجرة القسرية مفهوم جديد يحتوي مفهوم الحنين للوطن و يتعداه إلى تشكيل وعي ذاتي مرتبط بوطن جديد؟.
ـ الرواية قدمت صوتين اغترابيين.. رافد القادم من العراق و الذي تشكل وعيه و شخصيته فيه قبل الهجرة و هدى المولودة في الدنمارك.. هدى كانت تتعامل مع الغربة كواقع و ليس كخيار، هي أكثر إحساسا و تفاعلاً مع الوطن الجديد من رافد.. فرغم ملامحها العربية و لغتها الإضافية هي ما تزال نصف دنماركية.. بالنسبة لرافد الأمر مختلف فهو عراقي يحاول التأقلم مع واقع اغترابي سعى إليه بنفسه، قد تجد أمثال رافد يحاولون النأي بأنفسهم عن مجتمع المهجر أو العكس حيث يتناسون ماضيهم و أصولهم و يرتموا في أحضان الوطن الجديد.. كان مهماً بالنسبة لي و أنا اكتب الرواية أن أقدم هذين الصوتين لكي يميز القارئ العربي بينهما..
“تحت سماء كوبنهاغن” أولى أعمالك الروائية وقد أخذت لدى صدورها صدى واسعا خصوصا في العراق و قد رشحت عام 2011 ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية. هل هناك سر معين وراء هذا النجاح البارز؟.
ـ في الحقيقة الأمر على العكس من ذلك، لم أجد لروايتي صدى قوياً في العراق تحديداً.. أغلب القراء الذين يتفاعلون معي و أتابع اهتمامهم بالكتاب من دول عربية مختلفة.. الوسط الثقافي في العراق اطلع على روايتي لكن القارئ العراقي العادي لعله لم يسمع بها بعد.. أظن أن سر نجاح الرواية يكمن في كونها قد قدمت الاغتراب من وجهة نظر الجيل الثاني و باللغة العربية.. هناك كتب و روايات عديدة الفت من قبل الجيل الثاني و الثالث في دول المهجر لكنها دائماً ما تأتي بلغة البلد المهاجر إليه و ليس باللغة الأم..
كل كاتب لابد و أنه تأثر بأسلوب كاتب معين أو مجموعة من الكتاب، هل من كتاب معينين تأثرت حوراء النداوي بأساليبهم في الكتابة، و عملت على ترسيخها في روايتها؟
ـ صدقاً لا أعرف إن كنت قد تأثرت بأسلوب كاتب محدد، و حتى و إن كنت تأثرت بعمل و أو بأسلوب ما، إلا أنني حين أكتب ألقي بكل ما قرأت و تعلمت خلف ظهري و لا ألتزم إلا بما يمليه علي النص..
قلتِ في إحدى الحوارات التي أجريت معك سابقا أن لديك الكثير لتقوليه و لا تكفي رواية واحدة أو عمل واحد للتعبير عن ما عشته و تعيشينه، يجعلنا ذلك نتفاءل بعمل جديد و يدفعنا الفضول لنستشف منك ما قد يكون؟
ـ كل ما شرعت في قصة أو فكرة جديدة أدرك أن عملاً واحداً لن يكفيني.. لكنني لا استعجل النشر واعمل بصمت..عادة لا أفضل حصر نفسي في مواضيع متشابهة، فانا ملولة و أحب التجديد لأنه يخلق لي شخصيات و أبطال مختلفين على الدوام.. أبحث دائماً عن الجديد الذي سأضيفه و إذا ما أثار اهتمامي موضوع ما و أدركت أن كاتباً قد تناوله بطريقة جيدة تجعلني اشعر بان لا حاجة لإضافة المزيد من قبلي، سأتركه لأبحث عن آخر ببساطة.. لا أحبذ أن أهدر طاقتي في التكرار..
كلمة أخيرة لقرائك…
ـ هناك واقع جميل نعيشه اليوم و هو التواصل و تقريب البعيد عبر الشبكة.. أنا سعيدة جداً بتواصل القراء معي و متابعتهم لي و اشكرهم جميعاً..
نشر الحوار كذلك على جريدة المقام الجزائرية هنا