التقيته في معرض الجزائر الدولي للكتاب وكانت لي معه دردشة طويلة نصحني خلالها الكاتب السوداني أمير تاج السر بقراءة روايته 366، مشيرا إلى أنها كتبت لذوي القلوب الحزينة.. لتمر بعدها الأشهر وأقرأ الرواية..
من أول أسطرها أغرمت بها.. في البداية أريد الإشارة إلى أن أحداث الرواية تدور بين عاميْ 1978 و1979.. وهي مبنية على وقائع حقيقية، فقد ذكر تاج السر في مقدمة الرواية أنه “عثر ذات يوم على حزمة من الرسائل مكتوبة بحبر أخضر أنيق، ومعنْوَنة برسائل المرحوم إلى أسماء، وكانت مشحونة بشدة” كما (يذكر)، ضاعت تلك الرسائل لكن بقيت أصداؤها ترن في الذاكرة ليأتي هذا النص..
ما أحبه في كتابات تاج السر هو جعله القارىء ينغمس مع شخصيات رواياته.. وشخصية المرحوم في رواية 366 هي من تلك الشخصيات التي لا يملك القارئ إلا أن يتضامن معها وتشفق عليها.. رجل في الأربعين من عمره، لم يخاتل الحبُ قلبَه قبل تلك الليلة التي حضر فيها حفل زفاف أحد الأقارب.. ليرى صدفةً (أسماء) للمرة الأولى والأخيرة! تلك النظرة البِكر كانت بداية المنزلق في متاهات العشق المتأجج..ليبدأ رحلة البحث عن الحبيبة وسط كم من المشاعر التي تحكم العاشق الولهان يصورها أمير تاج السر في جمل قمة الشاعرية والأسلوب الجميل من كاتب لا تتوقع منه أقل من هذا.. مع وصول القارئ لآخر فصل من 366 تبدأ في الاقتناع بأن أسماء لم تكن سوى حلم جميل عاش فيه بطلنا المغبون ولا وجود لها إلا في خياله.
من الرواية
“أكثر ما أرهقني، في التصاق كولمبس وامرأته بي، هو أنني لم أعد أجد وقتًا لمحاولة تخمينك، وكلما جلست مطأطأ النوم، وواسع الأرق، لأحياك كما أريد، وأحيك دسائس الحب وتوعكاته، وخسائره وانتصاراته، أفاجأ بجاريّ، شرهين وواسعي الابتسامات، يتسليان بعورات بيتي، المرأة تفتح خزانتي بلا مناسبة، وتغلقها، ترتب سريري بحسب ذوقها، تغسل أطباقًا للطعام، ربما تركتها متسخة، تنحني لتكنس غرفتي وصالتي الضيقة، تطبخ لي ما تعتقد أنني أفضله، ولا أتذوق منه الكثير حقيقة، وأنتبه إلى لهاثها المجنون، وأترجاها أن تكف ولا تكف، والزوج، منكفئًا على وسادتي، تلك التي طرزتها بدموعي وريالة العشق التي أسلتها، أيامًا طويلة، يلف مخدره من البانجو، في ورق شفاف، ويدخن، لدرجة أن مرور بعوضة عادية بالقرب من أنفه، أو منظر ذبابة عالقة في خيط عنكبوت على الحائط، يضحكه حد الدمع، وأصوات الطريق العابرة، من صراخ وسباب، ومناجاة، تضرجه بتفاعل غريب، يقفز على أثره من اتكاءته، يركض، وينضم لمشعلي أصوات الطريق. وحين يجلس في ركن محاضرات الحياة، في أول المساء، ويملأ المساحة المتمكنة من الليل، بصوته الرنان الدائخ من أثر المخدر، أتنفس بعمق، أتمنى لو كان اليوم كله محاضرات خيالية تافهة، حتى أقضيه أنا في خيالاتي الوارفة النظيفة”.
بطاقة:
الرواية:366
المؤلف: أمير تاج السر
الناشر: الدار العربية للعلوم
السنة: 2013